الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب : الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه سلف المؤمنين، الذين أثنى الله ـ تعالى ـ عليهم وعلى من اتبعهم، وذم من اتبع غير سبيلهم، وهو أن القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله كلام الله ـ تعالى ـ وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وأنه قرآن كريم فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب. وأما تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع: فكثير منه يكون كلا الإطلاقين خطأ، ويكون الحق في التفصيل، ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق، ويكون كل منهما ينكر حق صاحبه. وهذا من التفرق والاختلاف الذي ذمه الله ـ تعالى ـ ونهى عنه، فقال: / فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه، إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا؛ فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة، الذي اتفق عليه العقل والسمع، وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة، ولكن نذكر منها جملة مختصرة بحسب حال السائل. والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله. والتفصيل المختصر أن نقول: من اعتقد أن المداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين، وسائر علماء الإسلام، ولم يقل أحد قط من /علماء المسلمين: إن ذلك قديم، لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم، ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد ونحوهم فهو مخطئ في هذا النقل، أو متعمد للكذب، بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهَّموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق. وقد صنف أبو بكر المروزي ـ أخص أصحاب الإمام أحمد به ـ في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في[كتاب السنة] الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمـة السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحـديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال : لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، وبدع من قال ذلك، وأخبر أن أحدًا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم! وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام أحمد وغيرهم أنكروا ذلك، وما علمت أن عالمًا يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال؛ من الأكراد ونحوهم. وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد، فقال تعالى: وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله ـ تعالى ـ في هذه المواضع، فهذا ـ أيضًا ـ مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف، وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح؛ فإن الموجودات لها أربع مراتب : مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان. فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ. فإذا قيل: إن العين في كتاب الله كما في قوله: فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله صلى الله عليه وسلم، ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر، كما قال تعالى: فمن قال: إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال : ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن في المصحف كما أن سائر الكلام فى الورق، كما أن الأمة مجمعة عليه، وكما هو في فِطَر المسلمين، فإن كل مرتبة لها حكم يخصها، وليس وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة في الموصوف، مثل وجود العلم والحياة في محلهما. حتى يقال: إن صفة الله حلت بغيره، أو فارقته، ولا الوجود فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري ـ تعالى ـ حتى يقال : ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله ـ عز وجل ـ /بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، ووجود الصورة بالمرآة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة، وبين رؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك. وإلا اضطربت عليه الأمور. وكذلك سؤال السائل عما في المصحف، هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل؛ فإن لفظ القديم أولا ليس مأثورًا عن السلف، وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلى، وحيث كتب، وهو قرآن واحد، وكلام واحد، وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب من أصوات العباد ومدادهم. فإن الكلام كلام من قاله مبتدئًا، لا كلام من بلغه مؤديًا، فإذا سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات) قلنا: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ، لا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نَظْمٍ ونَثْرٍ. ونحن إذا قلنا: هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ، ونرى في المصحف، فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو، مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ، ومداد الكاتب. /فمن قال: صوت القارئ ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ، وهذا الفرق الذي بينه الإمام أحمد لمن سألـه، وقـد قرأ: فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين: هذا كلام الله، فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها، وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته؛ فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق، فقد ضل وأخطأ فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فالقرآن في المصاحف.كما أن سائر الكلام في الصحف، ولا يقال: إن شيئًا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق،ويقال أيضًا ـ: القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق، والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق. ويتبين هذا الجواب بالكلام على المسألة الثانية، وهي قوله: /إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا ؟ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا خطأ، وهي من البدع المولدة، الحادثة بعد المائة الثالثة. لما قال قوم من متكلمة الصفاتية: إن كلام الله الذي أنزل على أنبيائه، كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات، والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره، ليست إلا مجرد معنى واحد، هو صفة واحدة قامت بالله، إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وأن الأمر والنهي والخبر صفات لها، لا أقسام لها، وأن حروف القرآن مخلوقة، خلقها الله ولم يتكلم بها، وليست من كلامه؛ إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت. عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات، وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد، وبالأصوات أصوات العباد، وهذا لم يقله عالم. والصواب الذي عليه سلف الأمة ـ كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح، في [كتاب خلق أفعال العباد] وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم ـ اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو /أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلامًا لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط؛ ولا المعاني فقط. كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما. وأن الله ـ تعالى ـ يتكلم بصوت، كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره. وأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا تشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد، فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته. وقد كتبت في الجواب المبسوط المستوفى مراتب مذاهب أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس الأنبياء، تفيض عليهم المعاني من العقل الفعال، فيصير في نفوسهم حروفًا،كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية،وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة: { وهؤلاء هم الصابئة، فتقربت منهم الجهمية. فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قام به كلام، وإنما كلامه ما يخلقه في الهواء أو غيره، فأخذ ببعض ذلك قوم من متكلمة الصفاتية، فقالوا: بل نصفه ـ وهو المعنى ـ كلام الله، ونصفه ـ وهو الحروف ـ ليس هو كلام الله، بل هو خلق من خلقه. وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق. هل يقال: إنه قديم لم يزل ولا يتعلق بمشيئته؟ أم يقال: يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء؟ على قولين مشهورين في ذلك، وفي السمع والبصر ونحوهما، ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة، وذكرهما أبو بكر عبد العزيز عن أهل السنة، من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية، وفرق الفقهاء، من المالكية، والشافعية والحنفية، والحنبلية، بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة، في جنس هذا الباب. وليس هذا موضعًا لبسط ذلك. [هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية].
/وقال الإمام العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا [ فمن الجهمية من يقول: أنزل بمعنى خلق، كقوله تعالى: /ومن الكُلابِيّة من يقول: نزوله بمعنى الإعلام به وإفهامه للملك، أو نزول الملك بما فهمه. وهذا الذي قالوه باطل في اللغة والشرع والعقل. والمقصود هنا ذكر النزول، فنقول وبالله التوفيق: النزول في كتاب الله ـ عز وجل ـ ثلاثة أنواع: نزول مقيد بأنه منه، ونزول مقيد بأنه من السماء، ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا. فالأول لم يرد إلا في القرآن، كما قال تعالى: أحدهما: لا حذف في الكلام، بل قوله: والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا وأما النزول المقيد بالسماء، فقوله: /وأما المطلق، ففي مواضع، منها: ما ذكره من إنزال السكينة بقوله: ومن ذلك: إنزال الميزان، ذكره مع الكتاب في موضعين، وجمهور المفسرين على أن المراد به العدل، وعن مجاهد ـ رحمه الله ـ: هو ما يوزن به، ولا منافاة بين القولين. وكذلك العدل، وما يعرف به العدل، منزل في القلوب، والملائكة قد تنزل على قلوب المؤمنين، كقوله: ومنه حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ الذي في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل الأمانة في جَذْر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) و[ [جَذْر]: أي أصل] ، والأمانة هي الإيمان أنزلها في أصل قلوب الرجال، وهو كإنزال الميزان والسكينة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله) الحديث إلى آخره، فذكر أربعة: غشيان /الرحمة، وهي أن تغشاهم كما يغشى اللباس لابسه، وكما يغشى الرجل المرأة، والليل النهار. ثم قال: (ونزلت عليهم السكينة) وهو إنزالها في قلوبهم، (وحَفَّتْهم الملائكة) أي: جلست حولهم، (وذكرهم الله فيمن عنده) من الملائكة. وذكر الله الغشيان في مواضع، مثل قوله تعالى: وذكر ـ تعالى ـ إنزال النعاس في قوله: وطائفة من أهل الكلام ـ منهم أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ـ جعلوا النزول والإتيان والمجيء حدثًا يحدثه منفصلا عنه، فذاك هو إتيانه واستواؤه على العرش، فقالوا: استواؤه فعل يفعله في العرش يصير به مستويا عليه من غير فعل /يقوم بالرب، لكن أكثر الناس خالفوهم، وقالوا: المعروف أنه لا يجيء شيء من الصفات والأعراض إلا بمجيء شيء، فإذا قالوا: جاء البرد أو جاء الحر، فقد جاء الهواء الذي يحمل الحر والبرد، وهو عين قائمة بنفسها، وإذا قالوا: جاءت الحمى، فالحمى حر أو برد تقوم بعين قائمة بسبب أخلاط تتحرك وتتحول من حال إلى حال، فيحدث الحر والبرد بذلك، وهذا بخلاف العَرض الذي يحدث بلا تحول من حامل، مثل لون الفاكهة؛ فإنه لا يقال في هذا: جاءت الحمرة والصفرة والخضرة، بل يقال: أحمر وأصفر وأخضر. وإذا كان كذلك فإنزاله ـ تعالى ـ العدل والسكينة، والنعاس والأمانة ـ وهذه صفات تقوم بالعباد ـ إنما تكون إذا أفضى بها إليهم، فالأعيان القائمة توصف بالنزول، كما توصف الملائكة بالنزول بالوحي والقرآن، فإذا نزل بها الملائكة قيل: إنها نزلت. وكذلك لو نزل غير الملائكة، كالهواء الذي نزل بالأسباب، فيحدث الله منه البخار الذي يكون منه النعاس، فكان قد أنزل النعاس ـ سبحانه ـ بإنزال ما يحمله. وقد ذكر ـ سبحانه ـ إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن. وما يذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن آدم ـ عليه السلام ـ /نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد؛ السندان والكلبتان والمنقعة، والمطرقة، والإبرة، فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح) حديث موضوع مكذوب، في إسنـاده سيف بـن محمـد ابـن أخت سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ وهو من الكذابين المعروفين بالكذب. قال ابن الجوزي: هو سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، يروي عن الثوري وعاصم الأحول والأعمش، قال أحمد ـ رحمه الله: هو كذاب يضع الحديث، وقال مرَّة: ليس بشيء. وقال يحيى: كان كذابًا خبيثًا، وقال مرة: ليس بثقة. وقال أبو داود: كذاب. وقال زكريا الساجي: يضع الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. وقال الدارقطني: ضعيف متروك. والناس يشهدون أن هذه الآلات تصنع من حديد المعادن. فإن قيل: إن آدم ــ عليه السلام ـ نزل معه جميع الآلات فهذه مكابرة للعيان. وإن قيل: بل نزل معه آلة واحدة، وتلك لا تعرف، فأي فائدة في هذا لسائر الناس؟! ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثَمَّ حديد موجود يطرق بهذه الآلات، وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات مع أن /المأثور: [إن أول من خطَّ وخاط إدريس ـ عليه السلام ـ] وآدم ـ عليه السلام ـ لم يخط ثوبًا فما يصنع بالإبرة. ثم أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، كالسيف والسنان والنصل وما أشبه ذلك، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه لم تنزل من السماء. فإن قيل: نزلت الآلة التي يطبع بها، قيل: فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة والآلة وحدها لا تكفي، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد، لكن لفظ النزول أشكل على كثير من الناس حتى قال قُطْرُب ـ رحمه الله ـ: معناه جعله نزلا، كما يقال: أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا: أي جعله نزلا. قال: ومثله قوله تعالى: /وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق لأنه أخرجه من المعادن وعلمهم صنعته، فإن الحـديد إنما يخلق في المعـادن، والمعـادن إنما تكون في الجبـال، فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبـال لينتفع به بنـو آدم، وقـال تعالـى: وهذا مما أشكل أيضًا. فمنهم من قال: جعل، ومنهم من قال: خلق؛ لكونها تخلق من الماء، فإن به يكون النبات الذي ينزل أصله من السماء وهو الماء، وقال قُطْرُب: جعلناه نزلا. ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة؛ فإن الأنعام تنزل من بطون أمهاتها، ومن أصلاب آبائها تأتي بطون أمهاتها، ويقال للرجل: قد أنزل الماء، وإذا أنزل وجب عليه الغسل، مع أن الرجل غالب إنزاله وهو على جنب، إما وقت الجماع، وإما بالاحتلام، فكيف بالأنعام التي غالب إنزالها مع قيامها على رجليها وارتفاعها على ظهور الإناث؟! ومما يبين هذا، أنه لم يستعمل النزول فيما خلق من السُّفْلِيَّات، فلم يقل: أنزل النبات، و لا أنزل المرعى، وإنما استعمل فيما يخلق في محل عال، وأنزله الله من ذلك المحل، كالحديد والأنعام. وقال تعالى: والصحيح أن [الريش] هو الأثاث والمتاع، قال أبو عمر: والعرب تقول: أعطاني فلان ريشه، أي كِسْوته وجهازه. وقال غيره: الرياش في كلام العرب: الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها. وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص، قال ابن زيد: جمالا؛ وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه، وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك، والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت، كما قال ـ تعالى: والله ـ تعالى ـ ذكر في سورة النحل إنعامه على عباده، فذكر في أول السورة أصول النعم التي لا يعيش بنو آدم إلا بها، وذكر في أثنائها تمام النعم التي لا يطيب عيشهم إلا بها، فذكر في أولها الرزق الذي لابد لهم منه، وذكر ما يدفع البرد من الكسوة بقوله: ولم يذكر هنا ما يقى من البرد؛ لأنه قد ذكره في أول السورة، وذلك في أصول النعم؛ لأن البرد يقتل فلا يقدر أحد أن يعيش في البلاد الباردة بلا دفء، بخلاف الحر فإنه أذى، لكنه لا يقتل كما يقتل البرد؛ فإن الحر قد يتقى بالظلال واللباس وغيرهما، وأهله ـ أيضًا ـ لا يحتاجون إلى وقاية كما يحتاج إليه البرد، بل أدنى وقاية تكفيهم وهم في الليل وطرفي /النهار لا يتأذون به تأذيا كثيرا، بل لا يحتاجون إليه أحيانًا حاجة قوية، فجمع بينهما في قوله: فقد تبين أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق بالقرآن؛ فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولا إلا بهذا المعنى، ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا؛ وبهذا يحصل مقصود القرآن واللغة الذي أخبر الله ـ تعالي ـ أنه بينه وجعله هدى للناس، وليكن هذا آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرًا. /وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى: فأجاب: الحمد لله رب العالمين، هذه الآية حق كما ذكر الله، وليست /إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه، ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل، وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل، وذلك أن قوله: وقد قال تعالى: وقد أخبر ـ تعالى ـ بأنه منزل منه، فقال: كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة، إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره، كما ذكر ذلك المفسرون، فقال تعالى: ومن المعلوم أن من بلَّغ كلام غيره كمن بلَّغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس، أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لَبِيد: /ألا كل شيء ما خلا الله باطل** أو قول عبد الله بن رواحة، حيث قال: وهذا الشعر قاله منشئه، لفظه ومعناه، وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه، ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله، مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه، وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول، وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد. والمحدث عن النبي /صلى الله عليه وسلم إذا روى قوله: (إنما الأعمال بالنيات) بلغه بحركته وصوته، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته، وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حركته كحركته، والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه. فإذا كان هذا معلوما معقولا، فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ: وهؤلاء قد يحتجون بقوله: ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا. ولو قال قائل: إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحًا، فكيف من يقول: أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى؟! وإن كان الله كلم موسى تكليمًا بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتًا للخالق. وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا، وأمثال ذلك ـ مما جاءت به النصوص والآثار ـ كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق، بل ولا مثلها، بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق، فليس كلامه مثل كلامه، ولا معناه مثل معناه، ولا حرفه مثل حرفه، ولا صوته مثل صوته، كما أنه ليس علمه مثل علمه، ولا قدرته مثل قدرته، ولا سمعه مثل سمعه، ولا بصره مثل بصره؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. /ولما استقر في فِطَر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه، كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب. وقد بين أئمة السنة والعلم ـ كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال، وغيرهما من أئمة السنة ـ من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره، ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين.
|